لا أحد يستمع إلينا | قصائد فرنسيّة من أجل غزّة

طفلان غزّيّان نازحان إلى رفح، 13/12 | عبد زقّوت، Getty

 

ثمّة نوعان من القصائد الّتي كتبها الشعراء في فرنسا منذ السابع من تشرين الأوّل (أكتوبر) حتّى الآن: قصائد جاءت تحت عنوان «ضدّ الحرب»، وهي قصائد تتّخذ موقفًا وسطًا بين طرفَي الصراع، وتوظّف صورًا واستعارات شائعة في الغالب عن السلام، وتوظّف رموزًا وأساطير توارتيّة كشخصيّتَي جالوت وداود؛ في تمثيل منها للصراع الحاليّ بين الفلسطينيّين والإسرائيليّين. وأسطرة الواقع في هذا النوع من القصائد، ورغم أنّه يأتي بدوافع شعريّة، إلّا أنّه بقدر ما يضفي كممارسة شعريّة من شاعريّة على النصّ، بقدر ما يبتعد عن الواقع ويشوّهه، ويعكس موقفًا فكريًّا وسياسيًّا ملتبسًا.

أجل، الشعر ليس مطالَبًا بتقديم الحقيقة؛ فهذه مهمّة العلم، الشعر له جماليّاته، الّتي قد تجاور الحقيقة وقد تناقضها، لكن حين تصبح الممارسة الشعريّة أدلجة للواقع، وتمنح أدوارًا ميثولوجيّة ودينيّة لكلٍّ من الفلسطينيّ والإسرائيليّ؛ فإنّها تصبح ممارسة خطيرة، وتحرف العين عن الواقع السياسيّ الّذي هو أساس الصراع. وأساس الصراع أنّ هناك شعبًا يخضع للاستعمار وقوّة احتلال تمارس أشدّ أنواع القمع والتطهير على هذا الشعب. لذا؛ فإنّ خطورة هذا التوظيف الشعريّ البريء أنّه يعطي أبعادًا دينيّة لهذا الصراع، وهي في الحقيقة مغالطة فكريّة، وإحالة الواقع إلى تفسيرات ميثولوجيّة، لا تنتمي إلى هذا الواقع بقدر ما تشوّه صورته.

أمّا النوع الثاني من القصائد، الّذي كتبه عدد قليل من الشعراء في فرنسا، فقد تناول العدوان الإسرائيليّ، واتّخذ موقفًا واضحًا من هذه الإبادة والتطهير العرقيّ اللذين يتعرّض لهما الفلسطينيّون في غزّة. وهذا النوع من القصائد ينمّ عن إدراك لطبيعة الصراع، وللخلل الفادح في موازين القوى. إنّها قصائد تعكس وعيًا سياسيًّا وجماليًّا مغايرًا، مبتعدة عن الاستعارات الفضفاضة أمام مشهد الأطفال الّذين يُقْتَلون يوميًّا في غرف نومهم، وأمام المجازر والفظائع المستمرّة، والّتي لا يمكن التغاضي عنها تحت أيّ مُسَمًّى شعريّ أو فكريّ. أمّا البقيّة الباقية من الشعراء الفرنسيّين فقد اختار كثير منهم الصمت لسبب أو لآخر، وامتنعوا عن اتّخاذ أيّ موقف ممّا يجري.

القصائد الّتي ترجمتُها إلى العربيّة هنا، نُشِرَت على وسائل التواصل الاجتماعيّ، وقُرِئ بعضها في أمسيات شعريّة عامّة. والشعراء هم فرنسيّون، وفرانكفونيّون، مع الإشارة إلى قصيدة للشاعر اليونانيّ دينو سيوتيس، تُرْجِمَت في البداية إلى الفرنسيّة، وهنا أترجمها من الفرنسيّة إلى العربيّة، وقصيدة للشاعر المغربيّ الّذي يعيش في فرنسا محمّد العمراوي، الّذي نشر قصيدته على صفحته حديثًا، وترجمها بنفسه إلى العربيّة، وقصيدتَي الشاعرين فيليب تانسلان ودينو سيوتيس نُشِرَتا حديثًا على صفحة «شعراء من أجل العالم». وقد أسرّ لي الشاعر فرنسيس كومب أنّه واجه تحذيرات وشتائم بعد نشره قصيدته عن غزّة على «فيسبوك». هنا ترجمة لهذه القصائد الّتي سمّت الأشياء بأسمائها، والّتي تنمّ عن فهم عميق لضرورة تحقيق العدالة الإنسانيّة.

 

فيليب تانسلان

Phlippe Tancelin

 

العيش في باريس

والموت في غزّة

 كحالةٍ نهائيّة

لبطاقاتٍ وخرائطَ جرى توزيعها

فوق حدائق الأطفال

بطاقاتٌ ضُرِبَتْ وخُلِطَتْ

مع الدمى

في رياح القنابل.

 

الموت في غزّة

والعيش في باريس

تحت سماءٍ مدفونة

لفكرةٍ ضائعة

في الفكرة ذاتها

حيث الصور بكلّ جشعٍ

تتفاخر بالكذب

وتجتاز الجدار.

 

العيش والموت

بين

باريسَ وغزّة

طوال هذا اليوم

القريب جدًّا من أيّ رسم

خَطّه الطيران

لحمامةٍ بين دبّابتين

لا طريقَ هناك للعودة

إلى بداية الرؤية

بين الدم واللون الأحمر

لا يد تمتدّ إلى أخرى

حبلٌ يتأرجح

حول عنق هذه الحرب

لا هدوء تحت المطر

الكثير من الأرواح الّتي فُقِدَت في العالم

الأمل الوحيد...

هو ربّما زهرة اللوز

مستقرّةً على كيانها

في ذروة العاشقين.

 

من باريس إلى غزّة

... ربّما هذا الملاك المتأرجح

حيث يعبّر في الأثير

الرجل وذكرياته

على أرض أحلامٍ لادينيّة

من شدّة الإيمان بنفسها.

 

*

 

فرنسيس كومب

Francis Combes

 

"لاساميّة"

كلّ قذيفةٍ إسرائيليّة

تسقط على مخيّمٍ للاجئين

على عمارةٍ سكنيّة

على مدرسة

على مستشفى

تدفن في الأرض

 بشكلٍ أكثر

عمقًا

رأسَ الطفل

الميّت

في غيتو وارسو.

 

*

 

ميكائيل كلوك

Michaël Glück

... طائرةٌ تمرّ فوق المدينة، سحابةٌ، طيرٌ، سربٌ من الحشرات، طفلٌ على درّاجةٍ يمرّ في ظلّ الطائرة، أنت تحصي عدد الحروف اللازمة لكتابة الآية الأولى قبل سقوط القنابل، على عتبة منزلٍ مدمّرٍ تقلّب امرأةٌ صفحاتٍ صفراءَ لكتابٍ قديم، لا ترى شيئًا، أنت في الليل، الأسود، ساعةٌ لا تعرف شيئًا عن الوقت والأيّام، وتقويمات عقدٍ من الزمن تفيض من القمامة، لم يَعُدْ ثمّة درّاجةٌ هوائيّة، عليك اختراع الناجين...

 

*

 

دينو سيوتيس

Dino Siotis

غزّة

في هذه اللحظة الّتي لا أحد يستمع فيها إلينا

حيث لا يرانا أحد

 فلنمِلْ

برؤوسنا إلى الشرق

 دعونا نأخذ علنًا

موقفًا ممّا يحدث

الفظائع

وعنف دولةٍ فظّة

بالدبّابات

بالسلاح البحريّ والقذائف

بالنار الّتي تدوس على أيّ حلّ

ونزيف مدنيّين

محاصَرين

في غيتو غزّة.

 

*

 

محمّد العمراوي

ها هنا حفرةٌ

تنهار فيها الأسوار 

وتحاصرها مِنْ كلّ جانب 

أسوار جغرافيا 

خُطِّطَتْ بقلم رصاصٍ عسكريّ 

بالغٍ في الضغط

أسوارٌ 

تعلوها أسلاك تاريخٍ مزيّف

حادّةٌ وشائكة

في كلّ شوكةٍ منه كاميرا وصوت ممثّلٍ

يروي سردًا أسطوريًّا

تتداول فيه البطولة والجريمة أدوارها

وبين حلقةٍ وأخرى

يحدث أن يسمع الناس البحر قريبًا

دون رؤيته

ويتأكّدون أنّ الأفق المعطى لهم

هو الخطّ الّذي تلتقي فيه الأسوار

بخواصر الغيم

 

ها هنا حفرةٌ

تكاد تكون مقبرةً جماعيّة

دون شواهد

ها هنا حفرة 

تغزوها لوالب حلزونيّة

تدور عميقًا وبدقّة 

ويندقّ فيها الشجر والنبات

وجماجم كنعان

وألواح الطين المسماريّة

وبقايا الجرار والزجاج المعشّق

والفسيفساء

وقطع الأسمنت

وأيادي الأطفال والدمى وشعر النساء

وأحلام المراهقات

والخواتم والآذان الّتي تحمل أقراطًا

على شكل علامات استفهام

يقطر منها دمٌ طريّ

والعيون الذابلة للقطط والكلاب

وخيوط الكهرباء الهشّة 

وشبكات التلفون الملتوية

والشاشات

والأدوية وأدوات الجراحة

والقمامة والمهملات

والنايات والأعواد

وبعض حروف كلماتٍ وشعاراتٌ

سياسيّةٌ ولوحاتٌ إعلانيّة

وهياكل السيّارات والباصات

وقِطَع من ألوان العلَم الوطنيّ

وقطع من بياض حمامة

وكِفافها الأسود

في ثوبٍ أبيض

وصفحاتٌ من الكتب

ودفاتر الدروس المجعّدة

والخطّ المرتعش لذكرياتٍ يوميّة

وأثاث غرف النوم

وصور العائلة

وما تيسّر من بضائع دكاكين البارحة

 

ها هنا حفرةٌ

وكأنّ الدول كلّها

تودّ إدارة حقّها في الألم

واختيار عدد الأغصان في أشجارها

واختيار عدد الكالوريات للأجسام

للتحكّم في طاقتها

وتُعِدّ لضمير العالم سريرًا

ينام فيه بعيدًا عن الحقيقة

الّتي قد تزعجه أو توقظه

 

ها هنا حفرةٌ

في انتظارٍ دائمٍ للهدنة

علّ الطيور تعود

لأنّ الطيور لا تستطيع الغناء

في هواءٍ يخترقه

ضجيج الأجنحة الفولاذيّة الفتّاكة

 

ها هنا حفرةٌ

تُبْنى فيها بشكلٍ عابرٍ

ممرّاتٌ لعبور شاحناتٍ كبيرة

بعُلَبٍ وموادّ

للتخفيف من عقدة الذنب

وتأخير ساعة الاندثار...

 


 

أنس العيلة

 

 

 

شاعر وكاتب فلسطينيّ مقيم في باريس، أصدر عدّة مجموعات شعريّة تُرجمت إلى الفرنسيّة، آخرها "عناقات متأخّرة". ينشر مقالاته في مجلّات ثقافيّة وأكاديميّة.